وتستمر حيرة الفتحاوي بعد عام من الحسم ..

لا أحد يعرف على وجهة الدقة أين ذهبت أم الجماهير ولمن تركت أبنائها الذين يبحثون عن حضن يحتضنهم خالي من أشواك المصلحة الخاصة وأنانية الذات ..!

فتحاوي هذا الزمان يتيم .. نعم ..
يتيم الأم ، والأب أيضاً رغم كثرة الأبوات .. هو يعيش حالة من الفصام الحقيقي بين ما تجرعه من مبادئ وأهداف ، وأفكار جديدة كُتبت بأقلام عبرية متعددة التفاسير تركته حائرا يبحث عن خريطة الوطن في ذاكرة غسلتها الاتفاقيات ، وبين محاولات تمييز العدو من الصديق وسط زخم العناق وكثرة المصافحات ..

هو لا يدرك أين يكمن الخلل على وجه التحديد .. هل هو في عدم فهمه للشعب الذي ينتمي إليه ، أم في معالم الطريق التي وضُع مجبرا للسير فيها على غير هدى ، ثم انتهت بتفرعات كثيرة على رأس كل فرع قائدا فتحاويا يطالبه بالسير معه !.. وفوق هذا وذاك ، هو لم يعد يعرف من بين كل هؤلاء من يمثل حركته ، هل هو محمود عباس المكبل بمستشارين لا ينتمون لفتح ، أم سلام فياض وياسر عبد ربه المطبقين على مفاصل الحركة بكماشة صهيونية ..

هو يعشق الديمقراطية ويعتبر حركته رائدة هذا المشروع الذي في اعتقاده سيخلص الوطن من براثن الاحتلال ونفوذ المستبدين وسطوة المتسلقين .. لكنه لا يشاهد هذه الديمقراطية تطبق بشكل فعلي وحقيقي داخل حركته .. وبالتأكيد هو ليس مقتنعا بأن تلك الاجتماعات التي يعقدها القادة تطبيقا حقيقيا للديمقراطية وإن كثر الحديث عن هذه الديمقراطية في تلك الاجتماعات .. ثم .. من الذي انتخب هؤلاء القادة ليتحدثوا باسم الحركة .. بل وكيف أصبحوا قادة في حركة ديمقراطية لم تعقد مؤتمرها السادس رغم مرور عشرات السنوات على انطلاقتها ! .. وإن كانت اجتماعاتهم طوال تلك السنين من أجل ترتيب البيت الفتحاوي الذي لم يرتب بعد ، فما هي المدة المتوقعة لترتيب الوطن الذي أنشئت من أجله الحركة ! .. هو لم يعد يدرك أصلاً إن كانت الحركة جزء من الوطن الفلسطيني أم أن هذا الوطن جزءا من الحركة ! ..

في محطات كثيرة تُبحر ذاكرة الفتحاوي وتتوقف عند مشهد ياسر عرفات وهو يشارك الفتحاويين احتفائهم بالنصر أو إنجازاً في أرض المعركة مع العدو الصهيوني المدعوم أمريكيا .. ثم يتبخر المشهد ويحل مكانه صورة للقائد الجديد وهو يرقص مع الفتحاويين الذين تدربوا على يد الأمريكان بمباركة صهيونية .. يهتف في خاطره هاتفاً يقول : هذه هي المقاومة السياسية ، وحين يقتنع ، يتردد في ذهنه صدى صراخ الفتحاويين الذين يعذبون في سجون الشريك السياسي منذ سنوات ، و يقفز أمام عينه مشهد فتحاوي مضرجا بدمائه بعد حصوله على وسام العفو الصهيوني لأنه سلم سلاحه ..

كثير ما يغضب الفتحاوي من الاحتلال الذي لا يتوقف عن مصادرة الأرض وهدم البيوت بعد قتل أصحابها الموعودين من حركته بالتحرير .. لكن غضبه سرعان ما يتبخر حين يشاهد في اليوم التالي قائده يعانق القاتل عناقاً حميماً لا يحدث حتى بين قادة فتح أنفسهم .. حينها يعتقد أن كل شيء سيكون على ما يرام ، وأن التسوية الموعودة شارفت على الانتهاء ، وسوء التفاهم في طريقه للزوال ! .. لكن الأمور تزداد سوءا بعد كل عناق .. وكأن الصدفة تكرر نفسها عمداً لتقول له شيء لا يفهمه ويزيد من حيرته ..!

يتساءل الفتحاوي بصمت العاجز لماذا ..
لماذا توجه إليه الأوامر دوماً من القادة وهم خارج الميدان ؟ ..
لماذا لم يُفتح تحقيقا في مقتل عرفات ؟ ..
لماذا الفرق والتفرقة بين فتح الضفة وفتح غزة ؟ ..
لماذا السلام مع الصهاينة مقدماً على السلام الداخلي ؟..
لماذا صمدت الحركة في صراعها مع العدو طوال سنين وفشلت في صراعها مع الفلسطينيين في شهور قليلة ؟..
لماذا لم تحقق الحركة أي إنجازا سياسيا أو تغييرا ملموسا في الضفة لتثبت لأهل غزة بأنها على حق ! ؟ ..
لماذا لا يوجد لحركة فتح تأييدا خارج حدود فلسطين من الشعوب العربية ؟ ..
لماذا الثأر من حماس ، والود والحوار مع من قتل ياسر عرفات ؟ ..
لماذا ترك محمد الشيخ خليل ، و عطايا أبو سمهدانة ، وعبد الكريم القوقا حركة فتح وانتموا لفصائل أخرى ؟ ..

ويتوقف الفتحاوي في غزة على محطة انتظار العودة .. إن مصطلح العودة في حد ذاته أصبح باهتاً غير واضح المعالم بالنسبة له .. فهل هي العودة لحكم غزة ، أم عودة فلسطين للفلسطينيين .. لكنه معني بالعودة لغزة وينتظر هذه العودة بشغف ولهفة أكثر من عودة فلسطين إلى الفلسطينيين .. هكذا قالوا له بإنه يجب يفعل ..! وهو لابد أن يفعل إن أراد إطعام أولاده ! ، وإلا جلدته التقارير وأوقفت راتبه الشهري ..

فجأة وجد نفسه يسترزق من عداوته لحماس وعليه أن يحذر كل الحذر من أن يعادي الصهاينة كي لا يتفق مع حماس ولو في بعض المواقف .. عليه أن يؤيد الحصار لأنه من فعل حماس ، وينتظر الاجتياح المخلص بفارغ الصبر .. وعليه أن يبدي شماتة كلما سقط شهيدا يتبع لحماس ، ويهتف بأن الله يمهل ولا يهمل ، فهم أولا وأخيرا صناعة الصهاينة ! .. عليه أن يفرح لآلام الشعب ، لأنه فضل حماس على حركته ، فهذا من مصلحة الشعب الذي يجب أن يدرك بأن الزمان لا يعطي دروساً بالمجان .. عليه أن يراقب زملائه ويرفع فيهم التقارير إن خفت عداوتهم لحماس .. وعليه أن يكون عيناً على عناصر حماس وينقل تحركاتهم لمن تهيأ للاستقبال ! .. عليه أن يفعل أشياء كثيرة إلا مقاومة الاحتلال كي لا يعطل المشروع الوطني .. فهو الآن في مرحلة محو عار الهزيمة التي لم يخوض فيها معركة .. وأنه لا سبيل لعودة المهزومين الحقيقيين إلا إذا أبدع في تشويه حركة حماس ..!

لكنه يكتشف ما لا يكتشفه القابعين في المقاطعة .. فالناس كلما فقدوا حبهم للصورة المشوهة تزداد كراهيتهم لمن ساهم في تشويهها .. وكلما أرادوا البصق على صور قادة الصهاينة طالت البصقة من يشاركهم الصورة ، وغالباً ما يكونون قادة فتح ! ..

في المقاطعة لا يدركون كيف ينظر الناس إليه ، فعبارة (عميل يطعمنا أفضل من شريف يجوعنا) ليست إطراءا ولا قاعدة تصنع مجداً .. بل هي تُشبه تملق المنتفعين ونفاق أصحاب الحاجة حين يوسطون عميلا لدى الصهاينة ليستخرج لهم تصريحاً أو لم شمل ! .. وحين يُقتل ذاك العميل لا يكترث له أحد ..!

ويمر عام كامل على معركة الحسم دون أي تغيير يُذكر على أي فتحاوي .. رغم أنه كان يصرخ طوال الشهور الماضية ويسمع صوته لكاتبي التقارير بأنه لا حوار مع حماس .. وحين كان يفعل ذلك موافقاً أو مرغما ، يكتشف أن زملائه في الكورال أولمرت وبوش ورايس وليفني .. وبعد هذا يلومونه على التقصير ويحملونه فشل ما أخفقوا فيه !..

ثم يعصف بذهنه تساؤل لا يجرؤ على طرحه أمام أحد .. لماذا مطلوب منه أن يخوض حرباً مقابل السلام مع العدو ؟!!..
لا أحد يجيب ..
فيلقي بنفسه في بحر الحيرة ، يهدأ كلما هدأ ويموج على غير هدى كلما هاج ..!